كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي خفيًا مظلمًا ملتبسًا مبهمًا من قولهم: غمّ الهلال على الناس إذا أشكل عليهم فلم يتبيّنوه، قال طرفة:
لعمرك ما أمري عليّ بغمّة ** نهاري وما ليلي عليَّ بسرمد

وقيل: هو من الغمّ لأن الصدر يضيق فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرًا ينفرج عنه ما بقلبه، قالت الخنساء:
وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه ** وغمته عن وجهه فتجلت

{ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ} أي آمنوا إلى ما في أنفسكم أو افرغوا منه، يقال: قضى فلان إذا مات ومضى وقضى منه إذا فرغ منه.
وقال الضحاك: يعني انهضوا إليَّ، وحكى الفراء عن بعض القرّاء: افضوا إليَّ بالفاء، أي توجهوا حتى تصلوا إليَّ، كما يقال أنصت [الخلائق] إلى فلان وأفضى إلى الوجه: {وَلاَ تُنظِرُونَ} ولا تؤمرون، وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه كان من نصر الله واثقًا ومن كيد قومه وبوائقهم غير خائف علمًا منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئًا إلاّ أن يشاء الله، وتعزية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن قولي وأبيتم أن تقبلوا نصحي: {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} على الدعوة وتبليغ الرسالة من أجل جعل وعوض: {مِّنْ أَجْرٍ} ما جزائي وثوابي: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين فَكَذَّبُوهُ} يعني نوحًا: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} سكان الأرض خلفًا عن الهالكين: {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} يعني [أخزى] من الذين أنذرتهم الرسل ولم يؤمنوا: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نوح: {رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بالبينات} بالآيات والأمر والنهي: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} ليصدقوا: {بِمَا كَذَّبُواْ} بما كذبت: {بِهِ} وأنّهم: {مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ} نختم: {على قُلوبِ المعتدين} المجاوزين الحلال إلى الحرام: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد نوح: {وَهَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} يعني أفراد قومه: {بِآيَاتِنَا فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ} يعني فرعون وقومه: {الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا} تقدير الكلام: أتقولون للحق لما جاءكم سحرًا سحر هذا الحذف السحر الأول، فدلالة الكلام عليه كقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7] المعنى: يغشاكم ليسوؤا وجوهكم.
وقال ذو الرمّة:
فلما لبسن الليل أو حين نصبت ** له من خذا آذانها وهو جانح

أي: أو حين أقبل: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون قالوا} يعني فرعون وقومه: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} لتلوينا وتصرفنا: {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} من الدين: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء} الملك والسلطان: {فِي الأرض} أرض (مصر): {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} أي الذي جئتم به السحر.
وقراءة مجاهد وأبو عمر وأبو جعفر: السحر بالمد على الإستفهام، ودليل قراءة العامة قراءة ابن مسعود: ما جئتم به السحر وقراءة أُبيّ: ما أتيتم به سحر: {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المجرمون فَمَا آمَنَ لموسى} لم يصدق موسى مهما آتاهم من الحجج: {إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} فقال قوم: هي راجعة إلى موسى وأراد بهم مؤمني بني سرائيل.
قال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثني وسبعين إنسانًا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف.
وقال مجاهد: أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى إلى بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء، وقال آخرون: الهاء راجعة إلى فرعون. روى عطية عن ابن عباس: هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته.
وروي عن ابن عباس من وجه آخر: أنهم سبعون أهل بيت من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله. قال الفراء: وإنما سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين انتقلوا إلى اليمن الأبناء، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم والذرية العقب من الصغار والكبار: {على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} يريد الكناية في قومه إلى فرعون، ردّ الكناية في قوله: {وملائهم}، إلى الذرية، ومن رد الكناية إلى موسى يكون: إلى ملأ فرعون.
قال الفراء: وإنما قال: {وَمَلَئِهِمْ} بالجمع وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى أصحابه. [فيكون من باب حذف المضاف] وذكر وهب بن منبه، [أنه] إليه وإلى عصابته كما يقال: قدم الخليفة تريد والذين معه، ويجوز أن يكون أراد بفرعون آل فرعون [كقوله تعالى]: {وسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] و: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1]: {أَن يَفْتِنَهُمْ} بصرفهم عن دينهم، ولم يقل: يفتنوهم؛ لأنّه أخبر أنّ فرعون وقومه كانوا على [الضلال]: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} [من المجاوزين الحدّ في العصيان والكفر] لأنّه كان قد ادّعى الربوبية: {وَقَالَ موسى} لمؤمني قومه: {يا قوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا}.
ثم دعوا فقالوا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} قال أبو مجلز: [ربّنا لا تظهر فرعون وقومه] علينا فيروا أنّهم خير منا فيزدادوا طغيانًا. وقال عطية: لا تسلّطهم علينا فيسيئون ويقتلون. وقال مجاهد: لا تعذّبنا بأيدي قوم [ظالمين ولا تعذّبنا] بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق لما عُذّبوا، ولا تسلّطنا عليهم فيفتتنوا: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ} [أمرناهما]: {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} يقال: تبوّأ فلان لنفسه بيتًا [والمبوأ المنزل ومنه بوّأه الله منزلا] إذا اتخذه له.
{واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال أكثر المفسّرين: كانت بنو إسرائيل لا يصلّون إلاّ في كنائسهم وبيعهم، وكانت ظاهرة، فلما أُرسل موسى أَمرَ فرعون بمساجد بني إسرائيل فخرّبت، ومنعهم من الصلاة، فأُمروا أن يتّخذوا مساجد لهم يصلّون فيها خوفًا من فرعون، وهذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وهي كذلك، ورواية عكرمة عن ابن عباس.
قال مجاهد وخلف: [قال موسى] لمن معه من قوم فرعون أن صلّوا إلى الكنائس الجامعة، فأُمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة للكعبة فيصلّون فيها سرًّا. ومعنى البيوت هنا [يكون] المساجد.
وتقدير الآية: واجعلوا بيوتكم إلى القبلة. وهذا رواية ابن جريج عن ابن عباس، قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه. قال سعيد بن جبير: معناه: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضًا، والقبلة الوجهة.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَبَشِّرِ المؤمنين} يا محمد.
{وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} من متاع الدنيا وأثاثها. مقاتل: شارة حسنة، لقوله: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]: {وَأَمْوَالًا فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}. اختلفوا في هذه اللام فقال بعضهم هي لام (كي) ومعناه [أعطيتهم لكي يضلّوا ويبطروا ويتكبّروا] لتفتنهم بها فيضلّوا ويُضلّوا إملاءً منك، وهذا كقوله تعالى: {لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16-17]، وقيل: هي لام العاقبة ولام الصيرورة يعني أعطاهم ليضلّوا [...] آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا، وقيل: هي لام أي آتيتهم لأجل ضلالهم عقوبة لهم كقوله: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} [التوبة: 95] أي لأجل إعراضكم عنهم، ولم يحلفوا لتعرض عنهم.
{رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ}، قال عطية ومجاهد: أعفها، فالطمس: المحو والتعفية، وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيّرها عن هيئتها، قال محمد بن كعب القرضي: جعل سكّتهم حجارة، وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حجارة، وقال ابن عباس: إن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحًا وأثلاثًا وأنصافًا. قال ابن زيد: صارت حجارة ذهبهم، ودراهمهم وعدسهم وكل شيء، وقال السدّي: مسخ الله أموالهم حجارة، النخل والثمار والدقيق والأطعمة، وكانت احدى الآيات التسع.
{واشدد على قُلُوبِهِمْ} يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.
{فَلاَ يُؤْمِنُواْ} قيل: هو نصب جواب الدعاء بالفاء، وقيل: عطف على قوله: {ليُضلوا}.
قال الفراء: هو دعاء ومحله جزم كأنه: اللهم فلا يؤمنوا وقيل: معناه فلا آمنوا: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} [وقرأ علي والسملي: {دعواتكما} بالجمع وقرأ ابن السميفع: قد أجبت دعوتكما] خبرًا عن الله تعالى.
كقول الأعشى:
فقلت لصاحبي لا تعجلانا ** بنزع أصوله واجتز شيحًا

{فاستقيما} على الرسالة والدعوة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم عقاب الله.
قال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة.
{وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ} نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم ويقال في الواحد لا تتبعَنْ، فيفتح النون لالتقاء الساكنين، وتكسر في التثنية لهذه العلة. وقرأ ابن عامر بتخفيف النون لأن نون التوكيد تُثقّل وتخفف.
{سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} يعني: ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي؛ فإن قضائي ووعدي لا خلف لهما، ووعيدي نازل بفرعون وقومه.
{وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر} الآية، وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل من مصر و[تَبَعا] بنو إسرائيل من القبط [فأخرجهم] بعلة عرس لهم وسرى بهم موسى وهم ستمائة ألف وعشرون ألفًا لا يُعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة، [إلى البحر وقال لكما] القبط تلك الليلة، فتتبعوا بني إسرائيل حتى أصبحوا وهو قوله: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] بعدما دفنوا أولادهم، فلمّا بلغ فرعون ركب [البحر] ومعه ألف ألف وستمائة ألف.
قال محمد بن كعب: كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشهبان، وكان [...] وكان هارون على مقدمة بني إسرائيل وموسى في الساقة، فلمّا انتهوا إلى البحر وقربت منهم مقدمة فرعون مائة ألف رجل، كلٌ قد غطّى أعلى رأسه ببيضة وبيده حربة، وفرعون خلفهم في الدميم، فقالت بنو إسرائيل لموسى: أين ما وعدتنا؟ هذا البحر أمامنا إن عبرناه غَرِقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا، ولقد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.
فقال موسى: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون، وقال: كلا إنّ معي ربي سيهدين، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم ينفلق وقال: أنا أقدم منك وأشد خلقًا، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن كنه وقل: انفلق أبا خالد بإذن الله عزّ وجل، ففعل ذلك فانفلق البحر وصار اثنا عشر طريقًا لكل سبط طريق. وكشف الله عن وجه الأرض فصارت يابسة وارتفع بين كل طريقين جبل.
وكانوا بني عمّ لا يرى بعضهم بعضًا ولا يسمع بعضهم كلام بعض، فقال كل فريق: قد غرق أصحابنا فأوحى الله تعالى إلى الجبال من الماء تشبّكي فتشبكت وصارت فيه شبه الخروق فجعل ينظر بعضهم إلى بعض.
فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر ورأوا البحر بتلك الهيئة قال فرعون: هابني البحر، وهابوا دخول البحر، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبرئيل على فرس وديق وخاض البحر وميكائيل يسوقهم، لا يشذ رجل منهم إلاّ ضمّه إليهم.
فلما شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل، وفرعون لا يراه انْسَلّ خلف فرس جبريل ولم يملك فرعون من أمره شيئًا واقتضمت الخيول في الماء، فلما دخل آخرهم البحر وهمّ أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم، فلمّا أدرك فرعون الغرق: {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} فدسّ جبرئيل في فيه من حمأة البحر، وقال: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}.
قال أبو بكر الوراق: قال الله لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] حين لم ينفعْه تذكّره وخشيته.
قال كعب: لمّا أمسك نيل مصر عن الجري قالت القبط لفرعون: [إن كنت ربّنا فأجرِ لنا الماء]، فركب وأمر جنوده بالركوب وكان مناديه ينادي كل ساعة: ليقف فلان بجنوده قائدًا قائدًا فجعلوا يقفون على درجاتهم وقفز حتى بقي هو وخاصته، فأمرهم بالوقوف حتى بقي في حُجّابه وخُدّامه، فأمرهم بالوقوف وتقدّم وحده بحيث لا يرونه ونزل عن دابته ولبس ثيابًا أُخر وسجد وتضرع إلى الله، فأجرى الله تعالى له الماء فأتاه جبرئيل وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سيد له غيره، فكفر نعمته وجحد حقّه وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون: جزاؤه أن يغرق في البحر.
فلمّا أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون ولا يموت أبدًا، فأمر الله تعالى بالبحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصير كأنه ثور فتراءاه بنو إسرائيل، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتًا أبدًا، فذلك قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا} أي قطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جازوه، وقرأ الحسن وجوزنا، وهما لغتان.
{فَأَتْبَعَهُمْ} فأدركهم، يقال: تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه، واتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه واقتدى به: {فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ}.
{بَغْيًا وَعَدْوًا} ظلمًا واعتداءً، يقال: عدا يعدو عدوًا مثل: غزا يغزو غزوًا، وقرأ الحسن [عُدوًّا] بضم العين وتشديد الواو مثل: علا يعلو عُلوًّا. قال المفسرون: بغيًا في القول وعدوًا في الفعل.
{حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق} أي أحاط به: {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ} قرأ حمزة والكسائي وخلف إنّه بالكسر أي آمنت وقلت: إنّه، وهي قراءة عبد الله. وقرأ الآخرون: أنّ بالفتح لوقوع آمنت عليها، وهي اختيار أبو عبيد وأبي حاتم.
{لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} قال جبرئيل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين}.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبرئيل: ما أبغضت أحدًا من عباد الله إلاّ أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ والآخر من الأنس، فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى، ولو رأيتني يا محمد وأنا أدسّ الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة».
{فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي نجعلك على نجوة من الأرض وهي النجو: المكان المرتفع، قال أوس بن حجر:
فمن بعقوته كمن بنجوته ** والمستكنّ كمن يمشي بقرواح

{بِبَدَنِكَ} بجسدك لا روح فيك. وقال مجاهد والكسائي: البدن هاهنا الدرع وكان دارعًا. قال الأعشى:
وبيضاء كالنهى موضونة ** لها قونس فوق جيب البدى

وقرأ عبد الله: فاليوم ننجيك ببدنك، أي نلقيك على ناحية البحر. وقيل: شعرك.
{لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} عبرة وعظة. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لمن خلقك (بالقاف)، أي تكون آية لخالقك.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الناس} قال مقاتل: يعني أهل مكة، قال الحسن: هي عامة.
{عَنْ آيَاتِنَا} عن الإيمان بآياتنا: {لَغَافِلُونَ}. اهـ.